المتهم بين البراءة.. والإدانة

 صحيفة الجزيرة 9 / 1/ 2019م  في خطوة أعتبرها شخصياً تاريخية في مجال تطوير القضاء صدر التعميم الجديد عن مجلس القضاء الأعلى برقم (1205-ت) وتاريخ 24-4-1440هـ الذي قرر أن المتهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما البراءة أو الإدانة، ولا وجود بعد اليوم للحكم بموجب توجه التهمة أو الشبهة، وهذا ما كنا نتمناه ونعتبره حلماً نود أن يتحقق، وفي الحقيقة قد يظن الكثير أن مبدأ الإدانة والبراءة لا وجود له في النظام السعودي، وأن الحكم بتوجه التهمة أو الشبهة هو السائد، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فالنظام قد كفل حق البراءة أو الإدانة، ولا وجود لتوجه التهمة أو الشبهة كأساس لإيقاع العقوبة، ولكنه لم يعمل به نظراً لطغيان مبدأ قضائي ليس مكتوباً، وإنما صار عرفاً قضائياً وهو مبدأ التوجه للتهمة أو الشبهة، وإلا فالمادة (3) من نظام الإجراءات الجزائية تلزم المحاكم والقضاة بعدم إيقاع عقوبة على المتهم إلا بعد ثبوت الإدانة، ونظام المرافعات الشرعية قد فصل تفصيلاً تاماً قواعد الإثبات في النظام من كتابة وشهادة وخبرة وإقرار و........ إلخ تلك الأمور.

إن البعض قد يظن أن هذا التعميم التاريخي يصب في مصلحة المتهمين، وأنا شخصياً اراه يصب في مصلحة العمل القضائي ككل، فهو من حيث العموم سيرتقي بالعمل القضائي والإجرائي في كافة الأصعدة، فرجال الضبط الجنائي لن يعتمدوا على أخذ إقرار المتهم، وإنما سيسعون لتوثيق حالات الاشتباه التي تتأكد بوجود الأدلة المجردة الخارجة عن شخصية طرفي الدعوى، والنيابة العامة سيتسع نطاق حفظ الدعاوى التي لا تقوم على إثبات كامل عبر قواعد الإثبات المعترف بها شرعاً ونظاماً، وهذا كله يعتبر تطوراً في أسلوب القضاء والطريقة المتبعة في الإجراءات.

إن اعتماد مبدأ الإدانة والبراءة سيكف أيادي العابثين بحياة الناس، وسيمكن المتضررين من تعسف البعض اللجوء إلى المحكمة لإقامة الدعوى في حال تبين أن إجراءاتهم كانت عبثية وأنها لم تلتزم بالمعايير الشرعية والنظامية التي نص عليها في النظام، فلم يعد الأمر مقتصراً على القبض والإحالة للمحكمة، ومن ثم الحكم بموجب توجه التهمة، وكأن القابض على المتهم يعلم أنه لن يخلو من عقوبة، ولكن بوجود هذا التعميم، إما أن تثبت أو تعاقب بناءً على الدعوى التي سترفع على الشخص الذي تسبب في تلك الإجراءات وليس على الجهة التي يتبعها، لأن التعسف سيكون أمراً شخصياً بحتاً لا دخل للجهة الإدارية فيه بوجه من الوجوه.

إنني ومن خلال تجربتي الطويلة في مجال المحاماة كنت أرى أن إصدار مثل هذا التعميم يعد حلماً والحمد لله أنه تحقق وبعد فترة طويلة، لأن أغلب من حكم عليهم كانت بموجب توجه التهمة، وليس بموجب الإدانة، وإلا فالصحيح إما البراءة أو الإدانة، ولا عقوبة إلا بنص والنص لا يرد إلا فيما ترد به البينة، وهذا هو المعمول به في جميع دول العالم المتقدمة.

إنني أشكر معالي وزير العدل من أعماق قلبي وأنادي عبر هذا المقال إلى توسيع دائرة قواعد الإثبات، وإلزام الجهات الرسمية بالسعي لإثبات حالات الاشتباه والقبض بصورة رسمية ودامغة وبعيدة كل البعد عن القرائن الضعيفة، حتى يكون الإيقاف مبنياً على أدلة، بدلاً من أن يكون مبنياً على اشتباه، وبهذا يضمن الجميع تحقيق العدالة من بدء الإجراءات إلى منتهاها، كما أنادي إلى تحميل من يتعسف بحق أي شخص المسؤولية كاملة في حال أن أصر على توقيفه دون أدلة مثبتة أو تم إحالته إلى المحكمة دون وجود ما يؤيد الدعوى.

ختاماً أتمنى أن يستمر العمل على تطوير قطاع القضاء لأنه من الأمور المهمة جداً للناس جميعهم، وهو صمام أمان لكل الضعفاء والأقوياء على حدٍ سواء، ولا شك أن هذا القطاع سيشهد تطوراً إيجابياً وكافة القطاعات في المملكة ما دام أن من يرعاها ويشرف عليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمين.

حفظ الله المملكة وولاة أمرها ورجال العدالة القائمين على تحقيق العدل والمساواة.